فن

حفل مارسيل خليفة في صيدا... حفنة ذكريات ومتناقضات

حفل مارسيل خليفة في صيدا... حفنة ذكريات ومتناقضات

ساعاتٌ قليلة قبل موعد بدء حفل الفنان مارسيل خليفة ضمن "مهرجانات صيدا"، شهد لبنان مأساةً تمثلت في سقوط ستة شهداء من الجيش اللبناني في بلدة زبقين في قضاء صور، الواقعة على مرمى طرفة عين من الموقع.. حدثٌ يستدعي في بلدٍ "طبيعيّ" أن تُلغى كل مظاهر الفرح في اليوم ذاته على الأقلّ، لكننا في لبنان، حيث يتعايش النقيض مع نقيضه، بل يسكن هذا تلابيب ذاك. لبنان الذي خبِر من الحروب والويلات والمآسي ما جعله يكاد لا يكون هو من دونها. وطنٌ لا تكتمل صورة الحياة فيه من غير موتٍ بات رفيق يومياتنا جيلاً بعد جيل، ولو اختلفت طبيعة مسبباته. ولأنني ابن هذا الوطن، كان من "الطبيعيّ" أن أتوجّه بملء إرادتي إلى الحفل الذي لن يُلغى بالتأكيد.


التقيت بأمثالي، وشاركنا مارسيل أداء أغنياته التي نحفظها، مرافقين صوته الباحث عن صداه في قلوبنا، مستجيبين لإدارته جوقة أصواتنا النشاز وإيقاعنا غير المنضبط في كل شيء، ملبّين- كما يفعل التلميذ أمام أستاذه- رغبته في الإصغاء إلى موسيقى جهد هو في تأليفها، وأُنهك نجله رامي في أدائها ببراعة عازفٍ عالميّ و"جنونٍ" تخطى مفاتيح البيانو إلى داخله، مستخرجاً من أوتاره أصواتاً وحشرجاتٍ وخربشات، ومن خشبه إيقاعات وضرباتٍ يبدو أنّ لها مغزىً يدركه هو، ولا نفقهها نحن الذين انتظرنا لحظة الفرج المتمثلة في العودة إلى "أغنياتنا" التي حضر بعضها في برنامجٍ أريد له أن يشمل فنّ الإصغاء إلى الموسيقى والكلمة، والتعرّف على مواهب عازفين شباب، أبرزهم نديم روحانا على آلة الأكورديون، في مشهديةٍ خاصة تعنيني، أعادتني إلى أيام كنت في موقعه هذا، وجعلتني أستشعر أطياف أناملي تسكن براعة أنامله.


أغنية "عودوا أنَّى كنتم" الراسخة في الذاكرة بصوت طوني وهبي وبيانو الراحل زياد الرحباني أعلنت بداية الحفل، في تلميحٍ واضح إلى أننا أمام حفلٍ تُستعاد فيها أغنياتٌ أكاد أجزم أنّ غالبية الحاضرين أتوا لسماعها، لكنّ هذا لم يحدث بطبيعة الحال، لأنّ لمارسيل مساراً كرّسه منذ أكثر من عقدين، يشكل ما يشبه الفصل السلس بين مرحلتين، أو التوأمة بينهما من خلال المؤلفات الموسيقية الصافية، والتوزيع الموسيقيّ لتلك الأغنيات.


رطوبة الطقس المرتفعة حملت مياه البحر رذاذاً غمرنا بعطر صيدا التي فتحت ذراعيها لبنيها والوافدين إليها العابرين أمام قلعتها الشامخة الصامتة التي تفتقد "معروفها"، كما نفتقد نحن أنفسنا، وكما أوحت به تلك المقدّمة الموسيقية الملتبسة لأهزوجة "يا بحرية" التي صدحت بها حناجر "الجمهور"، ومن ثم تصفيقه وقوفاً لمراكب البحارة التي انطلقت على إيقاعها. هذه المراكب بدت متعبة، مثقلة بهموم الصيادين المطفأة قناديلهم، الضحلة غلالهم، وهو ما استشعره مارسيل، فراح يحرّضنا على إطلاق حناجرنا بأعلى ما نملك من أصوات، وأن نزغرد، لعلّ الفرح يُعدي ويستجلب أملاً.


الشهداء كانوا بدورهم حاضرين، بالطبع، وقد استقبلوا للتوّ ستّة منتسبين إلى عالمهم السامي في السماء، تاركين لمن على الأرض ممارسة لعبتهم المفضّلة في توظيف التضحيات لمصالحهم الذاتية. وكذلك حضرت غزة التي رُفعت لها التحية تصفيقاً، بوجود غزيين بيننا.


الملفت الإيجابيّ كان تنوّع أجيال الحضور، بين مخضرمين نشأوا على أغنيات مارسيل وحفظوها في قلب القلب وردّدوها في الكثير من المحطات على مدار حياتهم، وبين يافعين يشاهدون مارسيل ويسمعونه مباشرةً ويحاولون استكشاف فنّه للمرة الأولى، في تجربةٍ موسيقية حافلة بالتنوّع، غادروها مع ذويهم والآخرين، مولين ظهورهم لمسرحٍ فاض فناً وموسيقى وغناءً ومواهب وفرحاً وتساؤلات، منطلقين من وهجه الآنيّ نحو وطنٍ تلفّه عتمة المجهول، وفي البال أصداء آخر أغنية أداها مارسيل "إني اخترتك يا وطني حبّاً وطواعية".


تصوير: المصور الصحافي نبيل إسماعيل


 

حفل مارسيل خليفة في صيدا... حفنة ذكريات ومتناقضات 1
بسام سامي ضو

بسام سامي ضو

كاتب وصحافي لبناني مقيم في دبي